ذكريات لـ نهاد شاهين
ذكريات -1-
فتحت سَبَت الخشب المصدف المغطى بتطريزة كروشيه بيضاء، تملكه منذ 47 سنة و يشكل جزء من حياتها وتاريخها، ورثته عن أمها، والذي لم تحظى بإرث غيره من والديها، الذين خلفا وراءهما الكثير من الأراضي التي تمنت أن تمتلك إحداها، والتي طالما أحستها قطعة منها، ومع ذلك فهي لم تجرؤ حتى أن تفتح الموضوع مع إخوتها الذين تناسوا وقت القسمة أن لهم أخت هي وصية أمهم لهم قبل وفاتها، احتوى الصندوق كل ذكرياتها وخيباتها ولحظات الحب التي تذكرها دائماً رغم ندرتها، تخرج منه جاكيت الطقم العربي الأزرق الذي لبسه أبو حسن بآخر ست سنوات من حياته، لا يزال مطوي ومعطر وكأن أبو حسن سيطلب منها أن تناوله إياه في أي لحظة، مع أنه توفي منذ أكثر من عشرين سنة، تضمه إلى صدرها وتشمه، تفرده، تتأمله ثم تطويه مرة أخرى.
ذكريات -2-
أبو حسن الذي قضى معها سبع وعشرين سنة، كان يشبه معظم رجال القرية بقساوتهم، التي تشبه وعورة أراضي القرية، وعاطفتهم المحدودة لنسائهم، فهم يجودون بالحب كل عدة سنوات مرة، كما يفعل نبع الكذاب الذي لا يفيض إلا في سنين الخير، والحمد لله أنهم لم يأخذوا من النبع اسمه، سمعت منه خلال حياتها معه كل أنواع الكلام القاسي والدعاوي التي كانت تطال أحياناً كل عائلتها حتى الجد السابع، دعاوي من الجدري إلى الفالج إلى كافة الأمراض المستعصية الأخرى، ومع كل دعاويه عليها فقد توفي منذ عشرين عام، وتنعم هي بصحبة أولادها وأحفادها، مع وفرة الذاكرة بتلك الأوقات الصعبة، إلا أنها استحضرت ذلك اليوم عند عودتهم من الأرض، كان يركب الحمار معظم الطريق وهي تسير دائماً وكأنها لا تملك رخصة قيادة، كانت قد سمعت قبل أيام من جارتها حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف كان يحب زوجاته ويداعبهم، ومما علق في ذهنها كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق عائشة، فسبقها مرة وسبقته مرة، قالت لأبو الحسن( نزال حابة اتسابق أنا وياك)، نظر باستغراب وقال ( بدك تفظحينا وتجرصينا أدام أهل رنكوس، بدك ياهم يعملونا مثلة )، باءت كل محاولاتها بالفشل، فحركت به الرجولة التي طالما يتباها بها واتهمته بالرفض خوفاً من الخسارة، بعد أخذ ورد وافق أن يسابقها، واختار لذلك مكان يضمن ألا يراه أحد وهو يتصابى لها، وافق دفاعاً عن رجولته وأنفته، سابقته يومها، لتذكر ذلك اليوم طيلة حياتها، فهي كمعظم نساء القرية في ذلك الوقت، تعودت على القلة حتى بتعبير أزواجهم لحبهم لهم.
ذكريات -3-
وهي تنظر داخل السَبَت وترتب محتواه وترتب ذاكرتها مع كل قطعة فيه، تسمع صوت حسن الجهوري: يمي، أينك؟
أنا هون ابني، يدخل ليراها تنزل غطاء السبت بهدوء، ينظر إلى الصندوق ويقول لها: شو رأيك نبيع هالسبت يمي، يمكن بيسوى شي عشر تلاف، تبتسم له أمه وتقول: الله يرحم أبوك ....... قال بعد عرسنا بسنة إنه بدو يجبلي واحد ثاني مثله بس تتيسر الأحوال، ان شاء الله الله بيرزقك وبتجيبه أنت.
حسن الذي حصل على البكلوريا، درس الجغرافيا والحساب والفيزياء و.. و... تعلم من أمه التي لم تلتحق بالمدرسة ما لم يتعلمه من غيرها.
تعلم حسن من أمه أن ذكرياتنا وتاريخنا ليسا للبيع.
ذكريات -4-
قرب ابني، لأول مرة تطلب أم حسن منه أن يقترب وينصت، فلطالما كلمته وهو مشغول عنها بشيء آخر، كان ذلك يحزنها لكنها لم تظهر له ذلك أبداً، سماع شو بدي وصيك الله يرضى عليك، تفتح أم حسن السَبَت، وتقول له (هالشغلات اللي هون ماحدا شافها قبلك)، ضحك بداخله سخريةً مما ستريه إياه، لأنه غافلها يوماً واستغل انشغالها على التنور، ليفتحه ويفتش داخله، وجد أشياء معظمها بلا قيمة أو معنى.
يابني ها طقم أبوك الله يرحمه، وها الكيس في شوية تراب من أراضي المرحوم أبي، من كل أرض كمشة، إذا صحي ضمير حدا من خوالك شي يوم وقال بده يعطيكم حصتي من الورثة، قله الوالدة أخذت حصتها من الأرض معها، ومسامحتكم بالباقي، بس برضاي عليك يوم تدفني أول شي تهيل عليي هالتربات، هدول فيهم ريحة الوالد، هاد الكيس مفيش تبر متل ما فكرت يوم فتحت السبت بغيبتي، وخدت منه شوي لتفحصهن، الله يهديك أنت وهالشباب، ضيعتوا عشر سنين من عمركم تدوروا على تبر، والتبر قدامكم على مد عينكم والنظر.الله يهديكم
هاد المتل الحجاب....
ذكريات -5-
تفتح أم حسن الحجاب، هاد مش حجاب، هدول الوراق اللي فيه، خبيتهم من يوم اللي دخلت أنت عالمدرسة وبلشت تتعلم، فيهن أول كلمات كتبتها أنت، بتتذكر؟ شو بيذكرك؟ بس أنا مانسيت، العلم يابني هو الحرز تبعك، يوم كتبتهم أنت أنا اللي كتبت، ويوم اللي تعلمت أنت أنا تعلمت، أنا معي البكلوريا تبعك، وشهادة الشريعة اللي أخدها أخوك، انا معلمة مدرسة متل أختك، الله يسامح خالك وقت ما خلاني روح عالمدرسة لأتعلم.
ابني، بها الكيس في الكفن تبعي وحاجات الدفن، اشتريته بعد ما اتوفا أبوك الله يرحمه، مابدي حدا يهكل هم موتتي أو لبك حدا فيي، أنا جهزت كل شي، بس الله يرضى عليك بتدفني حد أبو حسن.
تفتح أم حسن القرآن على الصفحة الأولى، شوف (لا إله إلا الله محمد رسول الله) هي أنا كتبتها، علمتني أم محمد شلون أكتبها، يابني" أنا فهمتها وعشتها، ولولاها ما قدرت أصبر عاللي شفته بهالعمر، وآخر شي تعلمته كتابتها، الله يرضى عليك ياحسن، لا تكون تعلمت تكتبها بدون ما تتعلم تعيشها وتعيش مشانها، قربك من الله يابني وحبك للنبي بيعلمك كيف تعيش، وبيصبرك عالناس، ارضي الله مشان يرضيك.
الله يرضى عليك يا حسن، عمري ما طلبت منك شي، بس بدي منك هالشغلة، عَمَلي خلص بهالدنية، بعرف مالح تقدر تتصدق عن روحي، بس الله يوفقك يابني لا تبخل عليي بالدعاء بعد ما موت.
توفيت أم حسن، يفتح حسن مصحف أمه يوم وفاتها ويكتب تحت لا إله إلا الله، تاريخ ولادة حسن 2011.
...انتهى...
تعليقات
إرسال تعليق