يوم في حياة امرأة رنكوسية


استيقظت قبل أذان الفجر، لطالما عجزنا عن إدراك أبعاد همتها التي لا تفتر ونشاطها الذي كان يعجزنا أوقات العمل، ويجبرنا على الاستيقاظ قبل شروق الشمس، فالراحة كلمة لا تعرفها إلا براحة عائلتها وتأمين متطلبات بيتها وزوجها، كعادتها لم تنسى شيء، وظبت الزاد وحاجياتنا جميعاً، تعمل كأي واحد منا في مزرعتنا التي استهلكت من عمرنا سنين كثيرة، تلك الأرض التي أعطت رجال بلدتنا قسوة يصعب كسرها وكبرياء لحد الكبر عند البعض، وهبت النساء حنيناً وعطاءً وصبراً لا ينضب، فهي أرض تجمع التناقضات جميعاً، كذلك نساء البلدة، ذلك الإنسان الذي يملك همة تفوق الرجال رغم ضعف بنيته مقارنة بهم، ضعيفة لكنها خير من يشد أزر الرجل وقت الشدة، دمعتها قريبة وربت أبناءها ليكونوا رجالاً لا يعرفون البكاء، بقدر ما تحنو على عائلتها بقدر ما هي صلبة في مواجهة الحياة ومتطلباتها، أرض بلدتنا ونسائها فيهما الكثير من الأمور المشتركة، فهما سكن الرجال، نبع العطاء، حضن للأبناء، هؤلاء الأبناء الذين شعروا بالبرد عند مغادرتهم رنكوس رغم أنها أبرد من كل المناطق التي انتشروا فيها، ضاع منهم الأمان رغم إقامتهم في بلدان أكثر أمناً، هرموا بسرعة في بلدان تنبض بالحياة أكثر، كما هو حال الرجل الذي يشيخ فجأة عندما يفقد أمه ويحس بوحدة قاتلة.
في المزرعة التي كانت لنا إما ملعباً أو مصدر تعب وملل، كانت تعني لها شيء مختلف، شيء لم أدركه إلا بعد عشرات السنين، شيء تراه في عينيها وهي تتأمل تضاريس الأرض وتفاصيلها لكنك لا تفهمه، ربما لأن الوطن والأم كائن واحد وإن اختلفت الطبيعة والتكوين، فبنظراتها تلك كانت ترى أشياء لا نراها.
رغم أن العمل بالمزرعة من واجبات الرجل لكني لم أستطع أن أتخيل كيف يمكن أن ننجز عملنا دون وجودها معنا، وبعد يوم عمل طويل أنجزت به أكثر منا، عدنا سيراً على الأقدام فقد كانت السيارات قليلة جداً في تلك الفترة، كان الطريق طويلاً، تمر في أحد مراحله بأشجار لوز جانب الطريق الأيسر قبل أن تصل إلى بئر جب العجوز، تلك الأشجار التي تضفي على الطريق شيئاً من السحر، ويعطيه جاذبية تجعلك مرتبط بتلك الأرض مهما ابتعدت عنها، نستمر بالسير ولا نشعر بطول الطريق ولا تعبه، إذ كانت تكلمنا عن الأيام السابقة وكيف عاشتها وعاشها أهل بلدتنا، تروي لنا القصص بتفاصيل لا تراها حتى في أفضل الأفلام إخراجاً، وبأسلوب لطالما شدنا أكثر من أي سيناريو لكاتب كبير، قصص فيها الحكاية المسلية والمعلومة، فيها التراث والنظرة الجميلة للمستقبل، تنقلك بدعوة واحدة من تفاصيل معاناة لأحد أبناء بلدتنا التي ترويها لك وكأنك تعيش معه تلك المعاناة، تنقلك بتلك الدعوة إلى تفاصيل حلم وأمل جميل تتمناه لك ولأبنائك.
نصل البلدة وفي جعبتها الشيء الكثير، انتهى عملنا لكن عملها لم ينته بعد، فهي تعيد تنظيف الصحون، ترتب الثياب، تحضر العشاء، ولا مانع أبداً من استقبال جارتها مساءً، وفي الوقت الذي نتحدث به عن مدى التعب الذي نال منا ذلك اليوم، ونعيد رواية وتذكر تفاصيل معاناتنا مع العمل في المزرعة طول النهار، كانت تعقب على كلامنا بكل بساطة (شو اشتغلتوا الله يعطيكم العافية)!!!!. 
وللعطاء تتمة ..............

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها أحق الناس بصحبتي.
_________
نهاد شاهين

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تعرف على بلدتك رنكوس

مع الرقية للأم الرنكوسية

صور مضيئة من عادات وأخلاق أبائنا وأجدادنا في رنكوس